بركةُ المسجدِ الأقصى

by admin
4929 views

لا يُمكنُ الحديثُ عن المسجد الأقصى المبارك دون الإشارة بل التوقُّف عند مفهوم وحقيقة “البركة” التي جعلها الله تعالى وصفًا مُلازِمًا لهذا المسجد؛ فقد تكرَّر استعمالُ هذا المصطلح وبعضٍ مِن مُشتقَّاته في آياتٍ كثيرةٍ تحدَّثت عن الأقصى، وفلسطين كجزءٍ مِن بلاد الشام في سياقات مختلفة؛ كان منها:

قوله تعالى عن نجاة إبراهيم عليه السلام: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 71]

وقوله فيما سَخَّر لسليمان عليه السلام:(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ) [الأنبياء: 81]

وحين أخبر سبحانه وتعالى عن نعمته التي أنعمها على الذين ظلموا أنفسهم قال: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ) [سبأ: 18]

وفي معرض مَنِّه على عباده الذين استُضْعِفوا قال سبحانه وتعالى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) [الأعراف: 137]

فما حقيقةُ هذه البركة؟ وما أسبابُها؟ وكيف يكون تحقُّقُها؟!

 بدايةً؛ فإنَّ البركةَ عند أهل اللغة: هي “الكَثْرَةُ والنَّماءُ في كلِّ خيْرٍ”، فيكون المسجد الأقصى الذي قال الله تعالى فيه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). [الإسراء: 1] هو مركز البركة، ومنبَع الخير، ومنه تنتقل البركة إلى أقطار الأرض وأنحائها، فَمَا مِنْ بركةٍ تَحِلُّ بمكانٍ إلا وكان المسجد الأقصى له فضل فيها، وهو ما ذهب إليه المفسرون مِن أنَّ البركة في الآية ترجع إلى أمريْن:

الأول: بركة في الدين، وعلَّلوا ذلك بأنَّ أكثر الأنبياء عليهم السلام بُعثوا منها، وانتشرت شرائعهم وآثارهم الدينيَّة فيها.

الثاني: بركة الدنيا، وذلك بجعل الله تعالى أرضها أرض ماء وثمر وطيب عيش .

فكان وصف الله تعالى للمسجد الأقصى بــــ: “الذي باركنا حوله” بالموصولية؛ لتشهير الموصوف بمضمون الصلة؛ أي أنَّ البركة ملازمةٌ لهذا المسجد، وكما ذكر الإمام ابن عاشور فإنَّ كوْن البركة حوله إنَّما هي كناية عن حصول البركة فيه من باب أولى؛ لأنَّها إذا حصلت حوله فقد تجاوزت ما فيه، فكانت الآية الكريمة مشتملةً على ثلاث لطائف:

الأولى: لطيفة التلازم. “فالبركة ملازمة للمسجد الأقصى، وهي إحدى صفاته”.

الثانية: لطيفة الفحوى. “وهو تحقق البركة ووجودها في المسجد من باب أولى”.

الثالثة: لطيفة المبالغة. في قوله “باركنا”.

وهذه البركة تتمثَّل في مجموعة من الصور والأشكال، ومنها:

  1. مضاعفة أجر الصلاة فيه: فقد كان أوَّلُ معالم بركة المسجد الأقصى تفضيلَ الله تعالى له على بقاعٍ ومساجدَ أخرى بمضاعفة أجر المصلين فيه؛ فهو أحد ثلاثة مساجد تُشدُّ إليها الرحال، والصلاة فيه تُضاعف إلى خمسمئة صلاة كما جاء في الحديث: “والصلاة في بيت المقدس بخمسمئة صلاة” (أخرجه البيهقي في السنن الصغرى رقم (1821) وحسنه). أو إلى ربع أجر الصلاة في المسجد النبوي في رواية أخرى، فعندما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المسجد الأقصى أم في مسجده -أي المسجد النبوي- أجاب: صلاةٌ في مسجدي هذا، أفضلُ من أربعِ صلواتٍ فيه، ولنعمَ المصلى، هو أَرضُ المحشرِ والمنشر، وليأتيَنَّ على الناسِ زمانٌ ولَقيدُ سوطِ -أو قال: قوسِ- الرجلِ حيث يَرى منه بيتَ المقدسِ؛ خيرٌ له أو أَحبُّ إليه من الدنيا جميعاً”. (رواه البيهقي وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).
  2. أرض الأنبياء: فقد كان مِنْ بركةِ المسجد الأقصى أن يُولَد عددٌ مِن الأنبياءِ في أكنافِه، وساق الله تعالى عددًا منهم للإقامة بِقُرْبِه، والسُّكْنى بجِوارِه؛ لذلك كانت أرضُه أرضَ الأنبياء، وازدادت بركته بِبَرَكتِهم فهم مُبَارَكُون؛ كما قال الله تعالى على لسان عيسى عليه السلام: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ) [مريم: 31]، فببركتهم تتنزَّل الرحمات، وتَتَتَابع الكرامات.
  3. أرضُ النَّجاةِ والسَّلامِ: كان مِنْ بركةِ المسجدِ الأقصى أنْ جعلَه اللهُ تعالى أرضَ الأمن والأمان، والسلامة والاطمئنان؛ فقال جلَّ شأنُه في معرض تفضُّله على نبيِّه إبراهيم عليه السلام: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 71].
  4. على أرضه تكون نهاية الجبابرة والطغاة: حيث كان من بركة المكان أن يُهْلِك اللهُ تعالى كلَّ جبارٍ طاغيةٍ؛ فقال تعالى حاكيا قصة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام:  (قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23) فالغلبة دائمًا لأهل الله، وأوليائه من الطائعين.
  5. تتحطَّم على أرضِه الإمبراطوريَّات، وتنكسر جيوش الظلم والفساد: ببركة الأقصى هُزِم الصليبيون بعدما أوغلوا في الظلم والفساد، وانكسر جيش التتار بعدما ملأ الأرض طغيانًا وإجرامًا وبؤسًا؛ فكانت أرضه مقبرة لكل الغزاة الطامعين، وقريبًا بإذن الله نَشهَد هزيمة الاحتلال الصهيوني، بعد أنْ بَلَغَ بفساده علوًّا غير مسبوق.
  6. مقرُّ الطائفةِ المنصورة: تَرَسَّخَت بركة المسجد الأقصى بأنْ جعله الله تعالى مَقَرَّ ومُقام الطائفة المنصورة التي لا تضُرًّها أذيَّة، ولا يُثنيها خُذلان، فقال صلى الله عليه وسلم: “لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيْنَ هُمْ قَالَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ”. (مسند الإمام أحمد).
  7. تتمايز بِبَركتِه الصُّفوف ويُعرف به أهل الحق من أهل الباطل: إنَّ تاريخ المسجد الأقصى وحاضِرَه يُنبِئُ عن دوْرِه في تَمَايُز الصفوف وتصنيفها، فبه يُعرف أهل الصدق والثبات والوفاء مِنْ أهل الإرجاف والنفاق والخذلان، وبناءً على موقف الأمم والشعوب والدول والأفراد يكون الحكم عليهم بالخيريَّة والصلاح، أو الشر والفساد، فأهل الحق أنصاره، وأهل الباطل أعداؤه.

وتتجلى كثير من المعاني واللطائف والحقائق التي تُظهر بركة المسجد الأقصى، وهي بركة يستشعرها ويعرفها كل من يعمل للمسجد الأقصى وبذل في ذلك من وقته أو ماله أو جهده، وهي بركة تتحقق بالقرب القلبي والعملي كما القرب البدني، وعلى المسلم أن يحرص على تلَمُّس هذه البركة، وقد تبيَّن من حديث الصحابيَّة ميمونة بنت سعد رضي الله عنها حرص الصحابة على تلَمُّسِ بركةِ المسجد الأقصى وإنْ لمْ يتمكَّنُوا مِنْ زيارته، أو بَعُدَت أجسادهم عن المكان؛ فدَلَّهم الرسول صلى الله عليه وسلم على البَذْل للأقصى والإهداءِ له،  ففي الحديث أن ميمونة مَوْلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ”: أَرْضُ الْمَنْشَرِ، وَالْمَحْشَرِ، ائتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاةً فِيهِ كَأَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، قَالَتْ: أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يُطِقْ أَنْ يَتَحَمَّلَ إِلَيْهِ، أَوْ يَأْتِيَهُ قَالَ: فَلْيُهْدِ إِلَيْهِ زَيْتًا يُسْرَجُ فِيهِ، فَإِنَّ مَنْ أَهْدَى لَهُ كَانَ كَمَنْ صَلَّى فِيه”. (مسند الإمام أحمد).

Related Articles