د. شريف أبو شمالة
رئيس مؤسسة القدس ماليزيا
يقتضي الحديثُ عن المسجد الأقصى في الإسلامِ استجلاءَ مكانَتِه عند الصحابة الذين رافقوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وكانوا تطبيقًا عمليًّا للفهم الإسلاميِّ الأوَّل لمكانة المسجد الأقصى، وقد تعدَّدت الشواهدُ والرِّوايات التي بيَّنت اهتمام الصحابة في المسجد الأقصى وشدَّ الرحال إليه والسؤالَ عنه أو الإقامةَ بجِوارِه والعنايةَ به، وهنا نعرض نماذج من علاقة الصحابة بالأقصى، ولا شك أنَّ الموضوعَ أكبرُ مِن أنْ يُجْمِله مثل هذا المقال المختصر.
أبو ذر يسأل ويفعل..
كان الصحابيُّ الجليلُ أبو ذر الغفاري رضي الله عنه من أوائل الصحابة إسلامًا (الرابع أو الخامس) يسألُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: يا رسولَ اللهِ، أيُّ مسجدٍ وُضِع في الأرضِ أولَ؟ قال: (المسجدُ الحرامُ ). قال: قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: (المسجدُ الأقصى). قلتُ: كم كان بينهما؟ قال: (أربعونَ سنةً، ثم أينَما أدرَكَتكَ الصلاةُ بعدُ فصلِّهِ، فإنَّ الفضلَ فيه. (رواه البخاري)
ويظلُّ المسجد الأقصى حاضرًا في ذهنِه ليسأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعدها بِسِنِين –وهم في المدينة المنورة- فيروي: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّهما أفضل أمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بيت المقدس؟ فقال صلى الله عليه وسلم (صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه -أي المسجد الأقصى- ولنعم المصلى هو)، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شَطَنِ فرسه من الأرض – الشطن: الحبل- حيث يرى منه بيت المقدس خيرٌ له من الدنيا جميعاً، أو قال خير له من الدنيا، وما فيها. (رواه الطبراني في المعجم الأوسط وصححه الألباني)
وتستمر علاقة أبي ذر بالأقصى؛ فيقول: أتاني نبي الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائمٌ في مسجد المدينة فضربَني بِرِجْلِه، وقال: ألا أراك نائمًا فيه؟ قال: قلت يا نبيَّ الله غَلَبَتْني عَيْني، قال: كيف تصنع إذا أخرجت منه؟ قال: قلت آتي الشام الأرض المقدسة، قال: فكيف تصنع إذا أخرجت من الشام قال: أعوذ بالله …. ) (تاريخ دمشق)
وهي كلها شواهد على اهتمامه رضي الله عنه بالأقصى ووضعه في مرتبة متقدمة ضمن أولوياته، ويصدقها بفعله إذ شارك في فتح بيت المقدس مع الخليفة عمر بن الخطاب عام 15 هـ/ 637م.
الصحابة والخلفاء الراشدون يُحرِّرون الأقصى
وتدلُّنا الروايات التاريخيَّة على مدى الاهتمام الذي أوْلاه الخلفاء الراشدون مِن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسجد الأقصى وبيت المقدس؛ فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يسرع في إرسال الجيوش لفتح بلاد الشام، ولعل رسالة الخليفة الراشد أبي بكر الصديق (ت: 13 هـ/ 634م) إلى خالد بن الوليد وهو في العراق يستحثُّه على اللحاق بجيش الفتح في الشام، تُبيٍّن ذلك، إذ يقول له: “أنْ أعجل إلى إخوانكم بالشام، فوالله لقرية من قرى أرض القدس يفتتحها الله تعالى أحب إلي من رستاق عظيم من رساتيق العراق”. (ابن المرجى: فضائل بيت المقدس)
ويكمل من بعده الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه المسيرة فيُلَبِّي دعوة أبي عبيدة بن الجراح للقدوم لاستلام مفاتيح بيت المقدس بنفسه، ويشرع في تهيئة المسجد الأقصى للصلاة، وأقام للمسلمين مُصلَّاهم الأول في الجهة القبليَّة من المسجد،
الصحابة يُهلُّون بالحجِّ أو العمرة من المسجد الأقصى.
الإهلال: هو التلبية، وهنا بمعنى الإحرام؛ لرفع المحرِم صوته بالتَّلْبية.
وحرص الصحابة على ذلك تَلَمُّسًا لتحصيل بركة الصلاة والزيارة للمسجديْن الأقصى والحرام في رحلةٍ تعبُّديَّة واحدة، وكذلك لتحصيل الأجر الموعود من الرسول صلى الله عليه وسلم لمن كان هذا فعلُه، فهي سنَّة مستحبة.
ففي الحديث عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ أَهَلَّ مِنَ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحَجَّةٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه)) (رواه أبو داود، وأحمد)، فكان هذا عمل جمع من الصحابة مثل ابن عمر رضي الله عنه، الذي ثبت أنه أهلَّ من المسجد الأقصى، وقدِم سعد بن أبي وقَّاص قائد جيشِ القادسيَّة إلى المسجد الأقصى فأحرَم منه بعُمرة، كما أن الصحابيَّ عبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَكَعْبٍ [أي كعب الخير] مُحْرِمِينَ بِعُمْرَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَمِيرُنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ. (المحلى لابن حزم الظاهري) مما يُدلِّل على أنَّ هذا الفقهَ كان مُتَوَافقًا عليه مِن الصحابة، وقد اقتدى بهم في ذلك عددٌ من الفقهاء والتابعين؛ مثل: وكيع بن الجراح الذي أحرم من بيت المقدس إلى مكة المكرمة، ومن النساء: أم حكيم ابنة أمية بن الأخنس؛ حيث شدَّت الرِّحال إلى بيت المقدس حتى أهلَّت مِن المسجد الأقصى بعمرةٍ بعد أن علمت بحديث أم سلمة السابق.
صحابةٌ في رحاب الأقصى.
أمَّا الصحابيَّان الجليلان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس رضي الله عنهما فعلاقتهما بالأقصى مشهورة، ولا تزال قبورهما شاهدة على ذلك في مقبرة باب الرحمة الملاصقة للمسجد الأقصى من الناحية الشرقيَّة، فالأول (عبادة بن الصامت) كان قد تولَّى القضاء في فلسطين وأقام في بيت المقدس هو وعائلته وكان يرتاد الأقصى مُصلِّيًا وفقيهًا ومُعلِّمًا، حتى توفَّاه الله.
أمَّا شداد بن أوس فقد استقر في بيت المقدس حيث المسجد الأقصى بناءً على توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم حين اشتكى للنبيِّ:” قَال: ضَاقَتْ بِيَ الدُّنْيَا، فَقَالَ: “لَيْسَ عَلَيْكَ، إِنَّ الشَّامَ يُفْتَحُ، وَيُفْتَحُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، فَتَكُونُ أَنْتَ وَوَلَدُكَ أَئِمَّةً فِيهِمْ إِنْ شَاءَ اللَّه. (المعجم الكبير للطبراني).
وبالفعل عمَّر شداد في بيت المقدس ومسجدها حتى توفَّاه الله هناك وقد كانت له ذريَّةٌ كبيرة في المسجد الأقصى.
ولم يكن شداد بن أوس الوحيد من الصحابة الذين شجَّعهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الاقامة في بيت المقدس ومجاورة الأقصى، فهذا الصحابي ذو الأصابع يطيع النبيَّ صلى الله علي وسلم وينتقل للعيش مُجاوِرًا للمسجد الأقصى، يقول: قلت: يا رسول الله، إنْ ابتُلِينا بعدك بالبقاء أين تأمرُنا؟ قال: عليك ببيت المقدس، فلعلَّه أن ينشأ لك ذريَّةٌ يَغْدُون إلى ذلك المسجد ويروحون”.(مسند الإمام أحمد)
أمَّا الصحابيُّ الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فكان له حالٌ فريدٌ مع الأقصى، إذ اعتاد أن يأتيَ من الحجاز إلى بيت المقدس؛ فيدخل فيصلي في المسجد الأقصى المبارك، ثم يخرج ولا يشرب فيه حتى الماء، حتى تصيبه دعوة سليمان عليه السلام الواردة في الحديث “لما فرغَ سليمانُ بن داودَ عليهما السلام من بناءِ بيتِ المقدسِ، سأل الله عزَّ وجلَّ ثلاثاً: أَن يعطيهُ حكماً يصادف حكمه، ومُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدهِ، وأَنه لا يأتي هذا المسجدَ أحدٌ لا يريد إلا الصلاةَ فيه؛ إلا خرجَ من ذنوبهِ كيومِ ولدتْهُ أمُّه”. فقال رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَما ثِنتَينِ فقد أُعطيَهما، وأرجو أن يكون قد أُعطي الثالثة“. (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه)، وكان الصحابة ثم التابعون يأتون، ولا يقصدون شيئاً ممَّا حوله من البقاع، ولا يسافرون إلى الخليل، ولا غيرها، بل تكون وجهتهم فقط الأقصى والصلاة فيه. (ابن تيمية: مجموع الفتاوى)
وقد حفلت كتب التراجم والسِّيَر بالعديدِ مِن الصحابة والصحابيَّات الذين ارتبطوا بالمسجد الأقصى، وتعلَّقوا به قلبًا وجَسَدًا، مثل أبو عبيدة بن الجرَّاح، وصفيَّة بنت حُيَي زوْج رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – ومعاذ بن جبَل، وبلال بن رباح مؤذِّن الرسول – الذي رفَض الأذان بعدَ وفاة الرسول، فلم يؤذِّن إلاَّ بعد فتْح بيت المقدس – وعياض بن غُنم، وخالد بن الوليد، وأبو ذر الغفاري، وأبو الدَّرداء عوَيمر، وعُبادة بن الصَّامت، وسلمان الفارسي، وأبو مسعود الأنصاري، وتميم الداري، وعمرو بن العاص، وعبدالله بن سلام، وسعيد بن زيد، وشدَّاد بن أوس، وأبو هريرة، وعبدالله بن عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وعوف بن مالِك، وأبو جمعة الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين.
الصحابيَّات والأقصى
ويبقى من الروايات المشهورة في اهتمام الصحابيَّات بالمسجد الأقصى ما روى الإمام أحمد في مسنده من حديث مَيْمُونَةَ، مَوْلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ: أَرْضُ الْمَنْشَرِ، وَالْمَحْشَرِ، ائتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاةً فِيهِ كَأَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، قَالَتْ: أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يُطِقْ أَنْ يَتَحَمَّلَ إِلَيْهِ، أَوْ يَأْتِيَهُ قَالَ: فَلْيُهْدِ إِلَيْهِ زَيْتًا يُسْرَجُ فِيهِ، فَإِنَّ مَنْ أَهْدَى لَهُ كَانَ كَمَنْ صَلَّى فِيه. (مسند الإمام أحمد) . .
أما أُمُّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنَّها علَّمت التابعيَّة أم حكيم ابْنَة أُمَيَّةَ بْنِ الأَخْنَسِ فضل الأقصى، وروت لها حديث “من أَهَلَّ مِنَ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحَجَّةٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ”. ويضيف الراوي: “فَرَكِبَتْ أُمُّ حَكِيمٍ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى أَهَلَّتْ مِنْهُ بِعُمْرَة” (مسند الإمام أحمد).
وبذلك نرى أن كبار الصحابة والكثير منهم قد اهتمُّوا بالمسجد الأقصى والسؤال عنه والإقامة فيه ممَّا يعكس فَهْمَهُم العميق لقُدسيَّة هذا المكان ومدى الأجر المتحقق بزيارته والبركة المتحصلة من مجاورته والعمل على تحريره وتطهيره وعمرانه بالصلاة والبناء وإحيائه بمجالس الفقه والعلم، وهو ما نحتاج إليه اليوم في معركتنا لتحريره واستعادته إلى حياض المسلمين ليعود للأقصى حريَّته ودوْره في الأمة.