أحكامٌ فقهيَّةٌ خاصَّةٌ بالمسجدِ الأقصى

by admin
3876 views

د. عبد الكريم مقداد

    لَمَّا كان المسجدُ الأقصى المُباركُ قِبْلةَ المسلمين الأولى، وثاني مسجدٍ وُضِعَ للنَّاسِ في الأرضِ، وهو كذلك ثالثَ مسجدٍ تُشَدُّ إليه الرِّحال، وجاء ذِكْرُه في آيِ القرآن الكريم، والسنة النبويَّة المطهَّرة تعلَّقت به أحكامٌ شرعيَّةٌ وفقهيَّةٌ خاصَّةٌ، جعلت بعض علماء المسلمين يهتمُّ ببيان هذه الأحكام سواء تعلَّقت بالمسجد الأقصى أم غيْرِه من المساجد؛ كالمسجد الحرام والمسجد النبويِّ، ويأتي هذا المقال لبيان بعض هذه الأحكام بشكلٍ مُقتضبٍ مُختصرٍ على النَّحْو التالي:

أولاً: حدود المسجد الأقصى

 لا تقتصر حدود المسجد الأقصى على المسجد القِبْلِيِّ أو مسجد قبة الصخرة، بل كامل المساحة التي تحويها أسواره هي حدوده، يقول صاحب (الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل): “إِنَّ الْمُتَعَارفَ عِنْد النَّاس أَن الْأَقْصَى من جِهَة الْقبْلَة الْجَامِع الْمَبْنِيّ فِي صدر الْمَسْجِد الَّذِي بِهِ الْمِنْبَر والمحراب الْكَبِير وَحَقِيقَة الْحَال أنَّ الْأَقْصَى اسْمٌ لجَمِيع الْمَسْجِد مِمَّا دَار عَلَيْهِ السُّور، فإن هَذَا الْبناء الْمَوْجُود فِي صدر الْمَسْجِد وَغَيره من قبَّة الصَّخْرَة والأروقة وَغَيْرهَا مُحْدَثَة، وَالْمرَاد بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى هُوَ جميع مَا دَار عَلَيْهِ السُّور”، وهذه المساحة تُقَدَّر بــ 144 ألف متر مربع، وتبلغ أطوال سوره: 491م من الغرب، و462م من الشرق، و310م من الشمال، و281م من الجنوب.

 

ثانيًا: فضل المسجد الأقصى:

للمسجد الأقصى المباركِ مجموعةٌ مِن الفضائلِ يُمكن بيانها في إطار بيان الأحكام الفقهية الخاصَّة به، ومن هذه الفضائل:

أ‌. يغفر الله لِمَنْ أتاه بقصد الصلاة: إنَّ مَن أتى المسجد الأقصى لا يريد إلا الصلاة فيه غفرت له ذنوبه، وخرج كيوم ولدته أمه، ودليل ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده من قوله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ اللَّهَ ثَلَاثًا، أَعْطَاهُ اثْنَتَيْنِ، وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ تَكُونَ لَهُ الثَّالِثَةُ: فَسَأَلَهُ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ أَيُّمَا رَجُلٍ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ خَرَجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ مِثْلَ يَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، فَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ” مسند أحمد (11/ 220).

ب‌. الصلاة فيه بخمسمائة صلاة فيما سواه:

كان من بركة هذا المسجد أنْ جعل اللهُ تعالى الصَّلاةَ الواحدةَ فيه تعدل خمسمئة صلاةٍ فيما سِوَاه، وقد دلَّ على ذلك ما أخرجه الإمام الطبراني عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ وَالصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِي بِأَلْفِ صَلَاةٍ وَالصَّلَاةُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ” مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (4/ 7).

ت‌. استحباب زيارته وشد الرحال إليه:

ذهب علماء المسلمين إلى استحباب شدِّ الرِّحال إلى المسجد الأقصى المبارك وزيارَتِه، وذلك لِمَا جاء في الصحيحيْن مِنْ قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ” لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى”، وذهبوا إلى استحباب ختم القرآن فيه؛ كما نقل الجراعي عن سعيد بن منصور في سننه عن أبي مجلز قال: “كانوا يستحبون لمن أتى المساجد الثلاثة أن يختم بها القرآن قبل أن يخرج”.

ث‌. يستحب إهداء المسجد الأقصى زيتًا ليُسرج فيه:

جاء حثُّ النبي عليه الصلاة والسلام واضحًا في استحباب إهداء الزيت للمسجد الأقصى، والزيت كناية عن أشكال الدعم المختلفة التي يُستحب أن يُقدِّمها المسلمون في كل زمانٍ للمسجد الأقصى المبارك، ويصبح الأمر واجبًا إذا كان هذا الدَّعمُ يُقدَّم في سبيل الحفاظ على المسجد الأقصى المبارك من التهويد وسيطرة الاحتلال الصهيوني عليه؛ فقد أخرج الإمام أحمد من حديث ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم حين قالت: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ: “أَرْضُ الْمَنْشَرِ، وَالْمَحْشَرِ ائْتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ فَإِنَّ  صَلَاةً فِيهِ كَأَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ» قَالَتْ: أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يُطِقْ أَنْ يَتَحَمَّلَ إِلَيْهِ أَوْ يَأْتِيَهُ قَالَ: “فَلْيُهْدِ إِلَيْهِ زَيْتًا يُسْرَجُ فِيهِ، فَإِنَّ مَنْ أَهْدَى لَهُ كَانَ كَمَنْ صَلَّى فِيهِ”. مسند أحمد (45/ 597)

ج‌. يُستحب الإهلال بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام:

ذهب الشافعيَّةُ والحنابلةُ إلى استحباب الإهلال بالحج والعمرة من المسجد الأقصى، واستدلُّوا على مذهبهم بِمَا روَتْه أمُّ سلمة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، كَانَتْ لَهُ كَفَّارَةً، لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ” سنن ابن ماجه (2/ 999)، وعند أبي داود: ” مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ، أَوْ عُمْرَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَا تَأَخَّرَ – أَوْ – وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ” سنن أبي داود (2/ 144)

ونشير هنا إلى أنَّ ما اشتَهر على ألْسِنةِ النَّاسِ عن “تقديس الحجة” وهو أن يقوم الحاج بتقديس حجته من خلال زيارة المسجد الأقصى، هو أمر لم يَرِدْ عليه دليل، ولكن كما بيّنا استحب بعض السلف الجمع بين المساجد الثلاثة في سفرة واحدة، بناء على الآثار الواردة في الإهلال بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى.

ح‌.  مضاعفة أجور المرابطين في المسجد الأقصى:

حراسة أرض المسلمين والدفاع عنها من أعظم القُرُبات التي يُحِبُّها الله تعالى، والأحاديث في فضل الرباط كثيرة؛ منها ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من قوله صلى الله عليه وسلم: “رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ” صحيح مسلم (3/ 1520)، والأجور تتضاعف بقدر شرف المكان المرابَط فيه؛ فيكون الرباط في المسجد الأقصى مِنْ أعظم الأعمال التي يُبتغى بها وجه الله تعالى خاصة في ظل المحاولات المتكررة من قِبل الاحتلال الصهيونيِّ للسَّيْطرةِ عليه وتهويده.

 

ثالثًا: ما يُكره أو يحرُم القيام به في المسجد الأقصى المبارك:

بيِّن العلماء بعض الأمور التي يُكره فعلها أو إطلاقها بحق المسجد الأقصى المبارك، ومنها:

أ‌.  لا يؤخذ شيء من ترابه وحصاه:

ذهب الشافعيَّةُ ومَن وافقهم من الفقهاء إلى حُرْمة أخذ شيءٍ مِن تراب المسجد الأقصى أو حصاه وحجره، قال السيوطي: “يَحْرُمُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَحَجَرِهِ وَحَصَاهُ وَتُرَابِهِ وَزَيْتِهِ وَشَمْعِهِ” الأشباه والنظائر (ص: 421).

وكذلك يحرُم ما يحرم بحق باقي المساجد من مُكث الحائض فيه، إلا أنَّ المُعاصِرين من العلماء ونظرًا لخصوصيَّةِ المسجد الأقصى وحاجتِه للمرابطين فيه استثْنوا في هذا الزمان منع الحُيَّض المُكْث فيه بشرط أمن تلويثه. انظر (فتاوى فقهية تتعلق بالمسجد الأقصى المبارك ص41).

ب‌. المسجد الأقصى ليس حرمًا بالمعنى الاصطلاحي:

الحرم بالمعنى الاصطلاحي هو ما يحرم صيْدُه وقطع نباته وأشجاره، وتتعلَّق به أحكاماً فقهيَّة خاصَّة لا تكون لِغيْره من المساجد؛ كحرم مكة والمدينة، وهو بهذا المعنى يَحْرُم إطلاقه على المسجد الأقصى المبارك؛ فالمسجد الأقصى لا تحرم لُقْطَته إذا عُرِّفت -وفق أحكام اللقطة- ولا يمنع صيده وقطع نباته وغير ذلك. أمَّا بالمعنى اللغوي للحرم أي ما يعظم انتهاكه واحتقاره ويجب الدفاع عنه وحمايته والقتال دونه وهو ممَّا شاع استعماله في حق الزوجة والأخوات والجامعة وغيرها من الأشياء، فلا إشكال في ذلك.

وقد جاء في فتاوى الهيئة العامة للشؤون الإسلامية في الإمارات: “الحرم بالمعنى الفقهي له أحكام خاصة تنطبق على الحرم المكي والحرم المدني لا غيرهما، ولفظ الحرم القدسي أطلق في الفترة الأخيرة على منطقة المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ولا حرج في ذلك من باب المجاز، فهو ثاني مسجد بني على الأرض، وأولى القبلتيْن وثالث المساجد التي تُشَدُّ الرِّحال إليها لفضلها،  والله أعلم”.

ت‌. لا يجوز التمسح في جدرانه وأبنيته والطواف به:

لا يجوز لمن زار المسجد الأقصى أن يتمسَّح أو يُقَبِّل أبنيته، أو أنْ يطوف به، وما ورد من أن بعض الناس كانوا يطوفون أو يقفون في ساحة الأقصى يوم عرفة فهو من البدع التي لا تجوز؛ لأنّ الطواف لا يكون إلاّ بالبيت الحرام فقط. ومن هنا كره الإمام مالك المجيء إلى بيت المقدس بقصد تخصيص المجيء بوقتٍ مُعَيَّن كوقت الحج الذي يذهب إليه جماعة فيقفون بساحته يوم عرفة، تشبُّهًا بالوقوف بعرفة، وينحرون الأضاحي تشبُّهًا بنحر الحجاج في مِنَى، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل هذا في أيِّ بقعة أو مسجد على عهده.

ث‌. لم يَردْ ما يدلُّ على تعظيم الصخرة كونها قبلة المسلمين الأولى:

لم يَرِدْ عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام أو أحدٍ مِن أصحابه تعظيمًا للصخرة، وإنَّما عظَّمها اليهود وبعض النصارى، وما يُذكر من أن هناك أثرًا لِقَدَم النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأثرًا لعمامته وغير ذلك فكله كذب وافتراء.

هذه جملةٌ من الأحكام الفقهيَّةِ الخاصَّة بالمسجد الأقصى المبارك سائلين الله تعالى أن يُحرِّرَه مِنْ أيدي المغتصبين، وأن يَرُدَّه إلى أهل الإسلام ردًّا جميلًا، وأن يرزقنا صلاة فيه.

Related Articles