التأسيس والبناء الأول للمسجد الأقصى

by admin
8671 views

د. شريف أمين أبو شمالة
رئيس مؤسسة القدس ماليزيا 

شكل المسجد الأقصى المبارك ابتداء القدسية، ومركز البركة التي سرت إلى ما حوله، حين وضع ثاني مسجد في الأرض يعبد فيه الله، فارتبط سيرته بالمسجد الحرام، وشهدت مسيرته حركة الأنبياء، الذين صلوا وعبدوا الله فيه، ومن محرابه بلغوا رسالته. وفي هذا المقال، سنتناول حقبة من تاريخ المسجد الأقصى المبارك، لنقف على أهم محطاته في الفترة التي تمتد من التأسيس إلى عهد نبي الله عيسى عليه السلام، مستفيدين من المصادر الإسلامية بتتبع الإشارات الواردة فيها، وما ارتضاه علماء الأمة الكبار من وروايات ضمنوها مصنفاتهم.

التأسيس الأول.

من الثابت في السنة النبوية أن تأسيس المسجد الأقصى المبارك كان بعد المسجد الحرام بأربعين عاما، حسب الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: “قلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلاً؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الأقْصَى. قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ. ثم قال: حَيثُما أدركتكَ الصلاةُ فَصَلِّ والأرضُ لكَ مَسجِدٌ”[1]. وهذا الحديث أساس في فهم وتتبع تاريخ المسجد الأقصى، إذ يوضح أن بناء المسجد الأقصى كان مبكرا جدا، بعد فترة قصيرة من بناء المسجد الحرام، فأربعون عاما تعد قصيرة إذا ما قورنت بأعمار البشر الأوائل، أو بعمر الحياة على الأرض.

من المسائل التي تطرق عادة عند التأريخ لتأسيس المسجد الأقصى المبارك، هي شخصية المؤسس للمسجد الأقصى، وقد نالت هذه القضية اهتمام العلماء المسلمين وتحقيقهم، قديماً وحديثاً، وفي ذلك يشير ابن حجر إلى تعدد الأقوال حول تلك الشخصية، فيذكر “أول من أسس المسجد الأقصى آدم عليه السلام، وقيل الملائكة، وقيل سام بن نوح عليه السلام، وقيل يعقوب عليه السلام”، لكنه ينضم إلى ابن الجوزي وابن هشام وغيرهما ويرجح أن آدم عليه السلام قد أسس المسجد الأقصى بعد أن أسس المسجد الحرام، فيقول: “الِاحْتِمَال الَّذِي ذكره ابن الْجَوْزِيِّ أَوْجَهُ، وَقَدْ وَجَدْتُ مَا يَشْهَدُ لَهُ وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ آدَمَ هُوَ الَّذِي أسس كلا من المسجدين”[2] وقد أضاف ابن هشام تفصيلا يعزز هذا الرأي، أنه بعد بناء آدم الكعبة بمدة، أمره الله تعالى “بالسير إلى البلد المقدس، فأراه جبريل كيف يبني بيت المقدس فبنى بيت المقدس”[3]. ومن المهم الانتباه أن المقصود ببيت المقدس هنا هو المسجد الأقصى، الذي ذكر بهذا الاسم أول مرة في مطلع سورة الإسراء، ثم اعتاد المسلمون أن يطلقوا اسم بيت المقدس على المدينة في عصور لاحقة، وأصبح اسم الأقصى علما على المسجد، كما أن المسجد الأقصى كان نواة مدينة بيت المقدس فهو أول بناء تشهده المنطقة، كما كانت الكعبة أول بناء في منطقتها[4].

أما الإشكال الذي قد يقع فيه البعض، بأن المسجد الأقصى بني بعد المسجد الحرام بأربعين عاما حسب الحديث السابق، وعليه يكون المسجد الأقصى بني إبان أو بعيد عهد إبراهيم عليه السلام، لأنه عليه السلام هو من بنى الكعبة بنص القرآن الكريم “وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ” (البقرة : 127)  فإن الرد على ذلك بأن بناء إبراهيم للكعبة كان بناء تجديدٍ، بعد تهدم البناء الأول، وهو ما ذكره ثلة من العلماء كالطبري في تفسيره، والرازي في التفسير الكبير، والقرطبي في تفسيره “الجامع لأحكام القرآن”، والسيوطي في شرح سنن النسائي، والبغوي، وغيرهم من العلماء، فعند الطبري: “الْقَوَاعِد الَّتِي كَانَتْ قَوَاعِد الْبَيْت قَبْل ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ قَوَاعِد بَيْت كَانَ اللَّه أَهْبَطَهُ لِآدَم مِنْ السَّمَاء إلَى الْأَرْض”[5]

ومما سبق من نصوص وآراء ارتضاها مجموعة من العلماء والمفسرين الأعلام، ترجح أن يكون تأسيس المسجد الأقصى على يد آدم عليه السلام.  

شكل واتجاه البناء الأول للأقصى..

يقدم الجزء الأخير من رواية ابن هشام السابقة “فأراه جبريل كيف يبني بيت المقدس” إضافة فريدة ومهمة جدا في تأريخ تأسيس المسجد الأقصى، إذ تؤكد أن آدم عليه السلام بنى المسجد الأقصى وفق كيفية (أو مخطط) موحى به من الله تعالى، بواسطة جبريل عليه السلام.

فمن الاكتشافات اللطيفة والمهمة، التي توصلت لها دراسة الباحث هيثم الرطروط من ناحية هندسية وتاريخية، للكعبة المشرفة والمسجد الأقصى، وذلك بدراسة أبعاد البيت الحرام الذي بناه إبراهيم عليه السلام (الكعبة المشرفة) على قواعد آدم عليه السلام، وذلك بالاستناد على ما قدمه الأزرقي (ت:225 هـ) في كتابه تاريخ مكة، فتم تحديد مخطط الكعبة الهندسي، ثم دراسة أبعاد المسجد الأقصى كما كان في عهد الأنبياء، أي قبل التوسعة الأموية (ق:1هجري/ 7ميلادي) التي كانت نحو الشمال، بالاستناد على البحوث والكشوف الأثرية الحديثة، تم تحديد مخطط الأقصى الهندسي، ثم عقد المقارنة بينهما وخلص إلى نتيجة سجلها كالتالي: “عند مقارنة المخطط الهندسي للمسجد الأقصى زمن التأسيس مع نظيره للكعبة المشرفة، يلاحظ التشابه المطلق بينهما، وذلك من خلال نسب أضلاعهما ودرجة انحرافها وكذلك الزوايا المحصورة بين هذه الأضلاع. وباختصار فالنتيجة التي يمكن التوصل إليها من خلال هذه المقارنات الهندسية هي أن كل من المسجد الأقصى والكعبة المشرفة تم تأسيسهما على مخطط واحد. ولربما يدلل ذلك على أن مخططاتهما قد أسست من قبل شخص واحد أو أن هذا الشخص الذي أسس أحدهما عاش لفترة من الوقت في كلا المكانين وكان على علم واضطلاع بما هو موجود فيهما” (انظر الشكل).  

ويضيف الباحث الرطروط أن دراسته لموقعي المسجد الأقصى والكعبة المشرفة تكشف أن توجيه المسجد الأقصى كان باتجاه الكعبة المشرفة، أي أن المسجد الأقصى بني على القبلة منذ أيامه الأولى، وهذا يثبت أن الأقصى بني بعد المسجد الحرام كما أخبر الحديث، لأنه متجه نحوه. (انظر الشكل).

وهذه النتائج المهمة تؤكد أن بناء آدم للأقصى كان وفق مخططات دقيقة ومحكمة، تفوق قدرات البشر آنذاك، ولابد أنها كانت توقيفية من الله عزوجل، وهو أمر يؤكد العلاقة المتينة والارتباط التاريخي والبنائي والديني بين المسجدين.

[1] صحيح البخاري ج: 4، ص: 422

[2] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج 6، ص 408 -409. 

[3] (كتاب التيجان في ملوك بني حمير: ص21-22)

[4] (كتاب التيجان في ملوك بني حمير: ص21-22)

[5] عبد الله معروف: المدخل إلى دراسات بيت المقدس.  

[6] انظر: التيجان في ملوك بني حمير: ص22.

Related Articles