مجد الهدمي
ينبثق تاريخ قراءة القرآن في المسجد الأقصى المبارك من مدرسة الإقراء في بلاد الشام عامّةً، وهي تستندُ في أصلها إلى الصحابيّ الجليل أبي الدرداء عويمر بن زيد الأنصاري الخزرجي – رضي الله عنه – أحد الذين جمعوا القرآن حفظاً في عهد النبي – صلى الله عليه وسلّم. لم يكن أبو الدرداء قارئاً فحسب، بل كان كذلك أول قاضٍ أُسند إليه قضاء الشام عام 32 هـ.
تفخر مدينة القدس باهتمامٍ متوارثٍ غيرِ منقطعٍ بالقرآن الكريم تلاوةً وتعليماً وسنداً، ففيها المسجد الأقصى الذي فتح أبوابه أمام العلماء وطلبة العلم عبر التاريخ. وكان المسجد الأقصى المعهد العلميّ الكبير الوحيد في القدس في القرون الأربعة الأولى للهجرة، فهو الجامع والمدرسة التي يُنهل منها العلم بالفقه والحديث وعلوم القرآن.
انقطع ذاك الإرث العلمي ردحاً من الزمن في الاحتلال الصليبي، لكنه عاد بقوّةٍ واهتمامٍ كبير في العهد الأيوبي والمملوكي والعثماني، فأوكل ولاة القدس في تلك العصور اهتماماً واضحاً بالتعليم فيها، وكانوا يحرصون على التشرّف بزيارتها لاسيّما في مواسم الحج، كما يلحظ أي باحث في كتب التراجم وأدب الرحلات. وكان طلبة العلم في أرجاء الولايات الإسلامية يسعون إلى زيارة العلماء المقيمين في بيت المقدس وأخذ العلم منهم، ومنها علوم القرآن وإجازات السَنَد المتّصل بين القارئ وأساتذته إلى النبيّ – صلى الله عليه وسلم- عبر القرّاء الذين أَقرَؤوا القرآن الكريم في القدس، والذين سأخصص جزءاً من البحث للحديث عنهم.
برز عدد من القرّاء الذين عملوا في الأقصى، منهم شهاب الدين أحمد بن محمد بن مغيث الأندلسي، والشيخ عثمان بن عبد الله بن عبد الرحمن أبو عمر الجبرتي، ورئيس القراء في القدس الشريف الشيخ شهاب الدين أحمد بن الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن حسين الأوتاري المقرئ الشافعي والذي توفيّ عام 874 هـ/ 1469م. وفي كتب التراجم ذِكرٌ كثيرٌ- لا يحصره بحث – للقرّاء الذين قرؤوا في الأقصى عبر التاريخ، ممن وُلدوا بالقدس، أو سَكَنُوها، أو توفوا بها، ولن نستطيع ذكرهم جميعهم؛ لأن عددهم كبيرٌ جداً، إنما يتّسع المقام لذكر بعضهم، كالإمام النّسائي صاحب السنن الكبرى والصغرى الذي يعرفه الناس مُحدِّثاً ولا يعرفونه قارئاً ومجوّداً، قرأ وأَقرَأ في الأقصى وتوفّي عام 303 هـ/915 م. وكذلك الإمام الشهير الرازي الذي كان يُقرئ القرآن ويعلّمه في قبة الصخرة في القرن الرابع الهجري، ومن تلاميذه أبو العباس النسوي شيخ الحرم المكّي في عصره.
ثم لا يخفى علينا أن أول إمام لقبة الصخرة بعد الفتح الصَّلاحيّ كان أندلسياً ويُعرف بالحاجّ المالقي نسبة إلى مالقة بالأندلس، واسمه أبو الحسن علي بن جميل المعافري المقدسي، درس في المغرب، وأثنى عليه شيوخ سبتة وبجاية، ثم انتقل إلى دمشق في صدر عمره وأخذ العلم من شيوخها، وعاش في القدس وظلّ فيها يؤم الناس ويُقرئ القرآن إلى أن توفّي عام 605 هـ/ 1208م.
بعد ذلك، انتشرت عادة تقديس الحجّة التي حرص بعض الحجاج على الالتزام بها، وتعني زيارة القدس بعد أداء مناسك الحج. وكان لهذه العادة الأثر الطيب في مكوث العلماء في القدس وازدهار الحركة العلميّة فيها، وخاصّة من الحجاج المغاربة الذين كانوا ينتهزون الفرصة لشدّ الرحال إلى المسجد الأقصى، فقد لا تتاح لهم الصلاة فيه غير هذه المرة لبُعد الديار. وكان منهم من يقرر الإقامة في القدس في حارتهم المعروفة بحارة المغاربة وأخذ العلم من علماء القدس، ومنهم عبد الله بن محمد المغربي أحدُ من عُني بالقراءات، وأقرأ في المسجد الأقصى ومكث في القدس إلى أن توفي سنة 710 هـ/1310م.
وممّن تأثروا بنكبة التهجير التي ألحقها الصليبيون عند احتلال البلاد سنة 1099م شهاب الدين أحمد بن جبارة المقدسي الصالحي الذي هاجر أجداد عائلته من إقليم بيت المقدس إلى الشام، وسكنوا في أطراف جبل قاسيون بدمشق، ثم عاد للقدس في القرن السابع الهجري، وسكنها وتصدّر لإقراء القرآن وتصنيف كتب القراءات حتى توفي فيها سنة 728هـ/ 1327م.
وممن قرؤوا وأَقرؤوا في المسجد الأقصى الإمام محمد ابن الجزري شيخ القراءات وسند المقرئين، حسب ما تناقلته كتب التراجم، لكونه أعلم الناس بالقراءات. طاف ابن الجزري الشام والحجاز ومصر والعراق يتعلّم القراءات ويعلّمها، ووجّه له شيخ الإسلام شهاب الدين أرسلان دعوة إلى زيارة بيت المقدس، فاستجاب ورحل إليها، وأقام فيها إلى آخر عمره وحصل له الخير فيها. تولّى هناك مشيخة مدرستيّ الجوهرية والصّلاحية في القدس، وعُيّن إماماً لقراءة مصحف الظاهر جقمق في الصّخرة الشّريفة تجاه المحراب وعاش بقية عمره في القدس إلى أن توفّي عام 833 هـ/ 1492م.
المداومة على قراءة القرآن في المسجد الأقصى طيلة أيام السنة
خصصّ المماليك (الذين حكموا بلاد الشام ما بين القرن الثالث عشر والسادس عشر) وظيفة لقارئ المصحف، وهو ما نسمّيه اليوم “المُقرئ” الذي يقوم على تلاوة القرآن وتجويده في أوقات معينة في اليوم، وقد غلب على اختصاصه العلمُ بالقراءات، ويقوم القراءُ بالتعليم أحياناً ولا سيّما شرح معاني الآيات الكريمة لمجموعة من الأشخاص في المساجد. أُضيف إلى القارئ في بعض الأحيان قرّاء الحزب من القرآن أو قرّاء العُشُر أو الجزء، والذين يداومون على القراءة من المصحف ضمن وقفية يوقفها العلماء أوالولاة والحكّام؛ حيث كان يرافق تعيين المقرئين إهداء المصاحف للمساجد، فيتسابق الحكام والولاة على إهداء المصاحف للأقصى وإيقافها للقراءة فيه في جميع الأوقات من غير تعطيل، ويُهدى ثواب ذلك لواقِفِه ولأمواتِ المسلمين عامّة.
ومن مظاهر هذه العناية ما فعله بعض سلاطين المماليك تشريفاً للقرآن الكريم، فقد وضع السلطان طومان باي مصحفاً شريفاً بداخل الجامع تجاه المحراب، بإزاء دكّة المؤذنين في الصخرة، ووقف عليه وقفاً خاصّاً به، وعيّن الشيخ محمد بن قطلوبُغا الرمليّ المقرئ للقراءة فيه، وكان قارئاً مشهوراً في الحفظ وحُسن الصوت. ومن المصاحف التي أهديت للمسجد الأقصى، مصحف نفيس هو مصحف سلطان المغرب “أبو الحسن المرّيني” المحفوظ في المتحف الإسلامي بالمسجد الأقصى، حيث أهدى السلطان ثلاثة نسخ إلى المسجد الحرام والنبوي والأقصى، وضاعت نسختا المسجد الحرام والنبوي، وبقيت نسخة الأقصى في العالم الإسلامي كلّه، وكان يُوقف على القراءة من هذا المصحف في زاوية المغاربة ومصلّاهم (الذي يشغله الآن المتحف الإسلامي داخل المسجد الأقصى) عددٌ من القرّاء المغاربة.
استمر هذا الحال في عهد العثمانيين، فقد اهتموا منذ بداية حكمهم بوقف المصاحف الشريفة وإيداعها في خزائن قبة الصخرة والمسجد الأقصى وغيرها من معاهد العلم في القدس، وتوظيف القرّاء لقراءة القرآن كما فعل أسلافهم. ومن الجدير ذكره أن المخطوطات وسجلات المحاكم الشرعية تزخر بأسماء القرّاء الذين تناوبوا على القراءة من المصاحف الموقوفة في الفترات المتعاقبة، في دلالة على استمرارية قراءة القرآن في المسجد الأقصى ومصلياته وأروقته.
أما عادة ختم القرآن الكريم، فظلت مستمرةً حتى وقتنا الحالي، فيختم القرّاء في الثامن والعشرين من رمضان في كل عام الجزء الثلاثين، ويحضر هذه الختمة لفيف من أهل القدس والمصلّين.
في الصورة: تؤرّخ صحيفة فلسطين حفل ختم القرآن الكريم داخل مسجد قبة الصخرة المشرّفة في رمضان 1365هـ الموافق آب 1936م.
المصادر:
طبقات القراء، شمس الدين الذهبي – تحقيق أحمد خان، مركز فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 1997.
الأوقاف الإسلامية في فلسطين في العصر المملوكي، د. محمد عثمان الخطيب، رسالة دكتوراه بكلية الآداب جامعة اليرموك، 2007م
الحركة الفكرية في ظل المسجد الأقصى في العصرين الأيوبي والمملوكي، عبد الجليل عبد المهدي، مكتبة الأقصى، عمان، 1980.
الحياة الفكرية والثقافية في القدس في العصر المملوكي، محمد زارع الأسطل، رسالة ماجستير، الجامعة الإسلامية في غزة.
أهل العلم بين مصر وفلسطين، أحمد سامح الخالدي، شركة نوابغ الفكر، 2008.
معاهد العلم في بيت المقدس، كامل جميل العسلي، جمعية عمال المطابع التعاونية، 1981.
جذور مدرسة الإقراء الفلسطينية – دراسة علمية- د. حاتم جلال التميمي.
تاريخ موسم الحج في بيت المقدس، بشير عبد الغني بركات، دار البشائر الإسلامية، 2014.
أرشيف مخطوطات المتحف الإسلامي في المسجد الأقصى.
أرشيف الصحف الفلسطينية فترة الاحتلال البريطاني- موقع جرايد.
مقابلات شفوية:
عدنان العويوي، مؤذن وسادن وإطفائي عمل في المسجد الأقصى لأكثر من 40 عاماً.
فتحي منصور، قاضي محكمة الاستئناف الشرعية.
محمد الصفدي، أستاذ التراث الإقرائي في المسجد الأقصى.
يوسف أبو سنينة، إمام في المسجد الأقصى.
حاتم جلال التميمي، أستاذ مشارك في كلية الشريعة- جامعة القدس وشيخ قراء فلسطين.
محمود قاسم، أحد مدرّسي القرآن في المسجد الأقصى المبارك.
فخري مزعرو، مسؤول استقبال القرّاء ووفادتهم.
المصدر: جزء من مقال منشور على موقع باب الواد